أقيم معتقل العقوبات في تلك الصحراء القاحلة ذات السبخات والرمال الكثيفة، والتي تعرف بالعقيلة وقد حشر في معتقل العقيلة سكان البطنان ممن عرفوا بلحمة عمر المختار من قبائل المنفة، وممن لهم روابط عائلية، أو مصاهرة، أو علاقة بالمجاهدين وما يعرف محلياً بالمرابطين من سكان البطنان.
وقد طبق على المعتقلين في ذلك المعتقل المُسيج الإجراءات الصارمة، ومنها:
1. الإعدام لكل من توجد لديه أوراق تثبت سداده لزكاة العشر لعمر المختار في السابق، أو تقديم أي مساعدة للمجاهدين، أو كل من حاول الفرار وتم القبض عليه.
2. عقوبة الجلد لكل من يتأخر عن التمام: صباحاً وظهراً، ومساءاً، أو من يخالف التعليمات، أو ينشر دعاية ضد السلطات الإيطالية.
3. تطبيق عقوبة أعمال السخرة على المعتقلين في معتقل العقيلة، مثل تفريغ حمولة السفن، وإزالة الرمال المتحركة من مكان إلى آخر، وتنظيف ثكنات الجند والخيول، وحمل النفايات، وجر الآلات أثناء عمل الطريق.
وأخضع المعتقلون لنظام قمعي رهيب ومعاقبتهم أشد العقوبات لأتفه الأسباب، بالإضافة إلى تفشى الأوبئة، والأمراض بين المعتقلين، مثل أمراض السل، الشلل وسوء التغذية، وفقد البصر، وعاهات مستديمة، وأمراض جسدية ونفسية.
فالحياة كانت بين أسلاك العقيلة، حياة بائسة ترى المعتقلين حفاة، عراة، وصوراً مأساوية لا تعد ولا تحصى.
- ترى الرجل وقد فقد جميع أفراد أسرته، وبقي وحيداً في خيمته، يشكو همومه وأحزانه.
- الأطفال اليتامى المشردين، وقد فقدوا ذويهم وأصبحوا بلا مأوى، وبلا عائل.
- البيوت الخالية التي تنبعث منها الروائح النتنة، التي تزكم الأنوف، والتي أصبحت مأوى للقطط والحشرات الضارة.
وفي معتقل العقيلة تجلى أبشع ما ينتج عن الحقد الأعمى، فالمعتقلون لا يعالج مرضاهم ولا يعطون طعاماً سوى حفنة من الشعير، كما كانوا يسخرون للقيام بالأعمال الشاقة، ومن تخور قواه يجلد حتى الموت ويتساوى في ذلك الأطفال والشيوخ والنساء وفيه جرت أضخم عمليات الابادة الجماعية للشعب الليبي وقد أستشهد ثلثي المعتقلين بالعقيلة البالغ عددهم أكثر من 18 ألف شهيد من جراء التعذيب الوحشي الفظيع، ها هو الشاعر يصور لنا كل ذلك وكأننا أمام شريط مرئي عن مأساة معتقل العقيلة
روى المجاهد الشاعر أرواق درمان المنفي أنه بينما كان في خيمة سجن معتقل العقيلة لاحظ على ملامح الفقيه رجب بوحويش الحزن والشحوب وكأنه يعاني من وعكة صحية أو مرض طارئ فسأله ما بالك يا فقيه رجب هل تعاني من مرض أو وعكة صحية؟ فأجابه قائلاً بأبيات :
مابي مرَضْ غير دار العقيلة.......وحبس القبيلة.....وبعد الجبا من بلاد الوصيله
في مطلع هذه القصيدة يقول الشاعر الشعبي الفقيه رجب بوحويش أنه عندما يسأل عن مرضه ، وهو في المعتقل يجيب أنه لا يشكو من أي مرض ولكنه السجن و البعد عن أرضه.
مابي مرض غير حد المكاد...وشوية الزاد....وريحة اللي مجبّرة بالسواد
الحمرة اللي وين صار العناد...عناتهاطويلة...لها وصف ماعاد تاجد مثيله
وهنا يشكو قلة الطعام و فقدانه لفرسه السريعة القادرة علي السبق لمدة طويلة
مابي مرض غير واجد مرايف ...والحال صايف....علي عَكْرمَة والعَدَم والسّقايف
وحومة لفاوات عزّ العطايف ....حتي وهي مْحِله...تربِّي المهازيل جلَّه خويله
كما يصف لنا حنينه وشوقه المتدفق إلى البطنان وضواحيها : عكرمة والعدم والسقايف وغيرها..
رايف علي عكرمة والسراتي...اللي هن مناتي...نشكرن ان كام طلتهن في حياتي
عليّ وين يخطرن ننسي اوقاتي...دمعي نهِله...زواعب علي لحيتي سال سيله
وكلما يتذكرها وما له فيها من ذكريات جميلة فإن دموعه تنهر من عينيه بغزارة لتسقط على لحيته الكثة، بل انه ينسى أوقات الصلاة كلما يتذكرها.
بعدها ينتقل ليصف لنا حياته داخل المعتقل الرهيب، وكيف أنه بعد أن كان سيداً في قومه، وفارساً شجاعاً، يرد الأموال المغتصبة إلى أهلها، أصبح عبداً ذليلاً كالمرأة مغلوباً على أمره، أمام الجبروت الإيطالي، يسخر للقيام بأحط الأعمال وأقذرها وأثقلها عبئاً، وكيف فقد العديد من أبناء قبيلته، وهو أسير تكبله الأغلال والقيود لا حول له ولا قوة ولم يستطع أن يفعل أي شيء إزاء ذلك وكذلك أسر وسجن الكثير من النسوة في المعتقل من بينهما بنتا الفقيه رجب بوحويش.
كما رثى لنا أبناء عمه الأبطال الأشاوس، الذين استشهدوا في المعتقل، فذكرهم بأسمائهم، معدداً بطولاتهم وأمجادهم / منهم يونس الذائع الصيت، والذى يتمتع بمكانة طيبة بين عائلة \" المقورى \" وبوحسين شيخ الرتيوات ، والعود فارس عائلة : المصموت \" ، وأمحمد وعبد الكريم ، وموسى وجبريل .. كل هؤلاء الأبطال المشهورين من قبيله المنفه يشعر الشاعر الفقيه رجب بوحويش بالحزن العميق لفقدهم
كما يصف لنا الشاعر كيف عمد الطليان إلى إذلال الشعب الليبي وإرغامه على العمل في رصف الطريق الساحلي، في وقت لم تكن فيه الآلات العصرية قد عرفت بعد
مابي مرض غير شغل الطريق...وحالي رقيق...ونروح وماطاق البيت ريق
وسواطنا قبال النسا في الفريق...وقبينا زطيله...ماطاقنا عود يشعل فتيله
كان العامل الليبي يشتغل عشرة ساعات يومياً مقابل كيلو من الشعير الجاف بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بالبلاد في شتاء 1930 م حيث نفقت الكثير من المواشي، وأجدبت المراعي، وعمت حياة الفقر والجوع والقهر في كافة أنحاء البلاد
الدايم الله راح راعي المجمم....طغي ضي ظَلَّم...العاصي علي طول مايوم سلَّم
لولا الخطر فيه بيش نتكلم...ونعرف نشيله...ونعرف نبين ثناه وجميله
ويرثى لنا في قصيدته هذه شيخ المجاهدين عمر المختار الذي ألحق بايطاليا خسائر فادحة .
مابي مرض غير فقدة بلادي... وشي من اريادي...نواجع غرب في خيوط السعادي
طالب الكريم اللي عليه اعتمادي ...يعجل بشيله...قبل لايفوتن ثلاثين ليله
وفى آخر القصيدة، يطلب الشاعر من الله عز وجل أن يفرج عنهم هذا الهم، ويطلق سراحهم من هذا المعتقل وقد قال كل من شهد هذا المعتقل : أن الله استجاب لدعاء الفقيه رجب بوحويش ، وأفرج عنهم قبل نهاية الشهر بعد قوله لهذه القصيدة .